-
حقيقة العد:
... من بين العلوم التي لا يستغني عن معرفتها قارئ القرآن علم عد آي الذكر الحكيم، وهو علم ثبت بالتوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير ما حديث، ونقله الصحابة إلى من بعدهم كما سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نقله الخلف عن السلف، فألفوا فيه، وجمعوا منه ما تفرق حتى لا يدرس وينسى. وإلى هذا المعنى أشار الإمام الشاطبي بقوله:
وَلَمَّا رَأَى الحُفَّاظُ أَسْلافَهُمْ عُنُوا ... ِبهَا دَوَّنوهَا عَنْ أُولِي الفَضْلِ وَالْبِرِّ(1)
ومن الأدلة على أن هذا العلم توقيفي، تأكيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عدد آيات بعض السور من ذلك:
1- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } : أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني.(2)
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ سُورَةً مِنَ القُرْآنِ ثَلاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِي سورة { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } " (3)
3- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "تمارينا في سورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون آية أو ست وثلاثون آية، قال : فانطلقنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدنا عليا - رضي الله عنه - يناجيه، فقلنا: إنا اختلفنا في القراءة، فاحمر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال علي - رضي الله عنه - : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن تقرأوا كما علمتم"(4).
... وعلم العدد فن يبحث فيه عن سور القرآن وآياته؛ من حيث بيان عدد آي كل سورة ورأس كل آية ومبدئها(5)، وهو توقيفي ولا دخل للرأي والاجتهاد فيه، وهذا ما ذهب إليه الحافظ أبو عمرو الداني في قوله: " ففي هذه السنن والآثار التي اجتلبناها في هذه الأبواب، مع كثرتها واشتهار نقلتها، دليل واضح وشاهد قاطع على أن ما بين أيدينا، مما نقله إلينا علماؤنا عن سلفنا من عدد الآي ورؤوس الفواصل والخموس والعشور وعدد جمل آي السور، على اختلاف ذلك واتفاقه - مسموع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومأخوذ عنه، وأن الصحابة - رضي الله عنهم - هم الذين تلقوا ذلك منه كذلك تلقيا كتلقيهم منه حروف القرآن واختلاف القراءات سواء، ثم أدوه إلى الأمة، وسلكوا في نقله وأدائه الطريق التي سلكوها في نقل الحروف وأدائها، من التمسك بالتعليم بالسماع دون الاستنباط والاختراع، ولذلك صار مضافا إليهم ومرفوعا عليهم دون غيرهم من أئمتهم كإضافة الحروف وتوقيفها سواء، وهي إضافة تمسك ولزوم واتباع، لا إضافة استنباط واختراع. "(6).
... هذا، وقد أفصح العلماء عن أهمية هذا العلم وعلاقته بعلم القراءات في كثير من المواطن. فقد عد مكي بن أبي طالب القيسي معرفة العدد المدني الأخير والكوفي سواء اختلفا أو اتفقا من تمام علم القارئ وكماله، وذكر أن جميع من لقيه من الشيوخ على هذين العددين فلذلك خصهما بالذكر دون غيرهما(7). وأما الهذلي فقد بين بعض مقاصد هذا العلم ومراميه بقوله: "اعلم أن قوما جهلوا العدد فقالوا ليس بعلم وإنما اشتغل به بعضهم ليُرَوِّجَ به سوقه، ويتكبر به عند الناس..، وهذا جهل من قائله لم يعلم مواقع العدد وما يحتوى عليه من العلم، وأنا أبين ذلك - إن شاء الله-"(
.
وساق عدة آثار وردت عن الصحابة والتابعين في هذا الموضوع.
وجمع كل هذه المعاني وزاد عليها الإمام شهاب الدين القسطلاني فقال: "وأما الجزء الرابع وهو فن عدد الآيات: فإنما احتاج إليه هذا العلم لأن بعض القراء زاد على رسم الخط ستين ياءا في رؤوس الآي، وبعضهم أمال رؤوس الآي من بعض السور، وبعض أصحاب الأزرق رقق ما غلظ من اللامات الواقعة في رؤوس الآي الممالة، فمن ثم احتيج إلى تمييز الفواصل من غيرها"(9).
فالآية في اللغة العلامة والمعجزة والعبرة والبرهان والجماعة، وحدها في الاصطلاح: "قرآن مركب من جملة فأكثر ولو تقديرا، ذو مبدإ، ومقطع، مندرج في سورة"(10). وحدوا الفاصلة بأنها "كلمة آخر الآية كقافية الشعر، وقرينة السجع"(11).
أما الحافظ أبو عمرو الداني فقد فصل في الأمر وفرق بين الفواصل ورؤوس الآي بقوله: "وأما الفاصلة فهي الكلام التام المنفصل مما بعده، والكلام التام قد يكون رأس آية، وكذلك الفواصل يكن رؤوس آي وغيرها. فكل رأس آية فاصلة وليس كل فاصلة رأس آية، فالفاصلة تعم النوعين وتجمع الضربين"(12).
ولمعرفة الفواصل طريقان: السماع والقياس، ومثل الإمام شهاب الدين القسطلاني للأول بحديث أم سلمة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع قراءته آية آية، وقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم إلى "الدين" تقف عند كل آية.(13)، قال: " وظاهره أنه كان يقطع قراءته بالوقف على رؤوس الآي في الفاتحة وغيرها. "(14)
وعرف الإمام الجعبري التوقيفي بقوله: " ..فما وقف عليه - صلى الله عليه وسلم - دائما تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائما تحققنا أنه ليس بفاصلة. وما وقف عليه مرة ووصله أخرى؛ احتمل الوقف أن يكون لتعريفها أو لتعريف الوقف التام لاستراحة. والوصل أن يكون غير فاصلة أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها، أو على الأصل، أو لتعريف التام فتردد فيه."(15)
وعرف الإمام الجعبري القياسي بقوله: " فالقياس ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص بمناسب".(16)
وفي حالة عدم وجود النص على عد الآية أو تركها فطرق القياس التي تعرف بها الفاصلة أربعة:
1- المساواة: أي مساواة الآية لما قبلها طولا وقصرا. ومساواة الآية طولا وقصرا بالنظر إلى السورة ومراعاتها طولا وقصرا، ومناسبتها للآيات في نفس السورة طولا وقصرا أيضا، بمعنى أن الآية الطويلة أو القصيرة لا تعد آية مستقلة إلا في سورة تناسب آياتها لتلك السورة من الطول والقصر.
2- المشاكلة: وهي مشاكلة الفاصلة لغيرها مما هو معها في السورة في الحرف الأخير منها أو فيما قبله.
3- الاتفاق: أي الاتفاق على عد نظائرها في القرآن الكريم في تلك السورة أو في غيرها.
4- انقطاع الكلام عندها.(17)
هذا وقد أفرد الحافظ أبو عمرو الداني بابا لذكر الأعداد وإلى من تنسب من أئمة الأمصار ومن رواها عنهم فقال: "... فأما عدد أهل المدينة الأول فرواه أهل الكوفة، ولم ينسبوه إلى أحد منهم بعينه، ولا أسندوه إليه، بل أوقفوه على جماعتهم، وقد رواه نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ، عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، وهو الذي كان يعد به القدماء من
أصحاب نافع، ورواه عامة المصريين عن عثمان بن سعيد ورش عنه، ودونوه وأخذوا به.
... وأما عدد أهل المدينة الأخير فرواه إسماعيل بن جعفر وعيسى بن مينا قالون المدنيان، عن سليمان بن مسلم بن جماز، عن أبي جعفر وشيبة موقوفا عليهما، وهو ينسب إلى إسماعيل.
... وأما عدد أهل مكة فرواه عبد الله بن كثير القارئ، عن مجاهد بن جبر، عن عبد الله ابن عباس، عن أبي بن كعب موقوفا عليه.
... وأما عدد أهل الكوفة فرواه حمزة الزيات، عن ابن أبي ليلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرفوعا. ورواه عن حمزة الكسائي وسليم بن عيسى وغيرهما.
... وأما عدد أهل البصرة فرواه المعلى بن عيسى الوراق وهيصم بن الشداخ وشهاب بن شرنفة، عن عاصم بن أبي الصباح الجحدري موقوفا عليه، وبه كان يعد أيوب بن المتوكل ويعقوب ابن إسحاق الحضرمي، غير أن أيوب خالف عاصما في آية واحدة، وهي قوله - عز وجل - في سورة "ص" { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ م } [من الآية: 84] لم يعدها عاصم، وعدها أيوب، تابع فيها الكوفيين، وقد قيل إن عاصما كان يعدها، وأن أيوب كان يسقطها، والأول عندنا أحفظ.
... وأما عدد أهل الشام فرواه أيوب بن تميم القارئ، عن يحيى بن الحارث الذماري موقوفا عليه، وبعضهم يوقفه على عبد الله بن عامر اليحصبي القارئ.
... ولأهل حمص عدد سابع، كان يعدون به قديما، وافقوا في بعضه أهل دمشق، وخالفوهم في بعضه، وأوقفته جماعتهم على خالد بن معدان -/- وهو من كبار تابعي الشاميين"(18).
ثم صرح الحافظ أبو عمرو الداني عقب ذلك باتصال سند رواية هذه الأعداد بقوله:
"وهذه الأعداد وإن كانت موقوفة على هؤلاء الأئمة فإن لها لا شك مادة تتصل بها، وإن لم تعلمها من طريق الرواية والتوقيف كعلمنا بمادة الحروف والاختلاف، إذ كان كل واحد منهم قد لقي غير واحد من الصحابة وشاهده، وأخذ عنه، وسمع منه، أو لقي من لقي الصحابة، مع أنهم لم يكونوا أهل رأي واختراع، بل كانوا أهل تمسك واتباع"(19).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - "ناظمة الزهر"، ضمن إتحاف البررة بالمتون العشرة، ص/342.
(2) - أخرجه الترمذي في سننه، كتاب "تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، باب "ومن سورة الحجر"، رقم الحديث: 3124، وقال: "هذا حديث حسن صحيح."، وأبو داود في سننه، كتاب "الصلاة"، باب "فاتحة الكتاب"، رقم الحديث: 1458، والحاكم في المستدرك، كتاب "فضائل القرآن"، رقم الحديث: 2020، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه."، وحديث رقم: 2021، وحديث رقم: 2022، وحديث رقم: 2023، وحديث رقم: 2024، وحديث رقم: 2025، وحديث رقم: 2026، وحديث رقم: 2027، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.".
(3) - أخرجه الترمذي في سننه، كتاب "ثواب القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، باب "ما جاء في سورة الملك"، رقم الحديث: 2891، وقال: "هذا حديث حسن."، وأبو داود في سننه، كتاب "الصلاة"، باب "في عدد الآي"، رقم الحديث: 1400، وابن ماجة في سننه، كتاب"الأدب"، باب"ثواب القرآن"، رقم الحديث: 3786، والحاكم في المستدرك، كتاب "فضائل القرآن"، ذكر "فضائل سور وآي متفرقة"، رقم الحديث: 2075، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه."، وكتاب "التفسير"، "تفسير سورة الملك"، رقم الحديث: 3838
(4) - أخرجه الإمام أحمد في المسند من طريق عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، حديث رقم: 832، وأبو يعلى في مسنده، حديث رقم: 5054.
(5) - القول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز على ناظمة الزهر للإمام الشاطبي، شرح الشيخ رضوان بن محمد بن سليمان المكنى بأبي عيد المعروف بالمخللاتي، حققه وعلق عليه : عبد الرزاق بن علي بن إبراهيم موسى، ص/17.
(6) - البيان في عد آي القرآن، لأبي عمرو الداني (ت 444 هـ)، تحقيق د. غانم قدوري الحمد، ص/ 39.
(7) - التبصرة، ص/ 28.
(
- الكامل(مخطوط)، ورقة 23ب.
(9) - لطائف الإشارات، ص/ 264-265.
(10) - لطائف الإشارات، ص/ 265، ومرشد الخلان إلى معرفة آي القرآن لعبد الرازق علي إبراهيم موسى، ص/ 39.
(11) - لطائف الإشارات، ص/ 265.
(12) - البيان عن عد آي القرآن، ص/ 126.
(13) - أخرجه الترمذي في كتاب "القراءات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، باب "في فاتحة الكتاب"، حديث رقم 2927، وقال: " هذا حديث غريب."، وأبو داود في سننه، كتاب "الحروف والقراءات"، حديث رقم 4001، ومسند الإمام أحمد، حديث رقم: 26625، والحاكم في المستدرك، كتاب "التفسير"، حديث رقم: 2910، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. "، وأبو يعلى في مسنده، مسند أم سلمة، حديث رقم: 7016.
(14) - لطائف الإشارات، ص/265.
(15) - حسن المدد في فن العدد للجعبري، تحقيق: أد.سامي عبد الفتاح هلال، ، ص/44.
(16) - حسن المدد في فن العدد للجعبري، تحقيق: أد.سامي عبد الفتاح هلال، ، ص/44.
(17) - حسن المدد في فن العدد للجعبري، تحقيق: أد.سامي عبد الفتاح هلال، ، ص/44.
(18) - البيان في عد آي القرآن، ص/ 67-70.
(19) - البيان في عد آي القرآن، ص/ 70.
من كتاب "مدرسة القراءات القرآنية في الأندلس، وآثارها العلمية من القرن الخامس إلى منتصف القرن السابع" للدكتور مصطفى بورواض خريج مؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط، 3/921 إلى 3/926.